المادة    
قال المصنف رحمه الله تعالى:
[وروى مسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم، في تفسير قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ ))[الحديد:3] بقوله: {أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء}.
والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ))[الكهف:97] أي: يعلوه.
فهذه الأسماء الأربعة متقابلة: اسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه.
وروى أبو داود عن جبير بن محمد بن جبير بن مطعم عن أبيه عن جده قال: {أتى رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أعرابيٌّ، فقال: يا رسول الله! جهدت الأنفس، ونهكت الأموال -أو هلكت- فاستسق لنا، فإنا نستشفع بك إلى الله ونستشفع بالله عليك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ويحك! أتدري ما تقول؟! وسبح رسول الله صلى الله عليه وسلم، فما زال يسبح حتى عرف ذلك في وجوه أصحابه، ثم قال: ويحك! إنه لا يستشفع بالله على أحد من خلقه، شأن الله أعظم من ذلك، ويحك! أتدري ما الله؟ إن الله فوق عرشه، وعرشه فوق سماواته، وقال بأصابعه مثل القبة، وإنه ليئط به أطيط الرحل الجديد بالراكب}.
وفي قصة سعد بن معاذ يوم بني قريظة، لما حكم فيهم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذراريهم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: {لقد حكمت فيهم بحكم الملك من فوق سبع سماوات}، وهو حديث صحيح، أخرجه الأموي في مغازيه وأصله في الصحيحين .
وروى البخاري عن زينب رضي الله عنها أنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وتقول: {زوجكن أهاليكن، وزوجني الله من فوق سبع سماوات}.
وعن عمر رضي الله عنه [[أنه مر بعجوز فاستوقفته، فوقف معها يحدثها، فقال رجل: يا أمير المؤمنين! حبست الناس بسبب هذه العجوز؟ فقال: ويلك! أتدري من هذه؟ هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات، هذه خولة التي أنزل الله فيها: ((قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ))[المجادلة:1]]]. أخرجه الدارمي .
وروى عكرمة عن ابن عباس في قوله: ((ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ))[الأعراف:17] قال: [[ولم يستطع أن يقول: من فوقهم؛ لأنه قد علم أن الله سبحانه من فوقهم]].
ومن سمع أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم وكلام السلف وجد منه في إثبات الفوقية ما لا ينحصر]
. اهـ.
الشرح:
استدل المصنف رحمه الله تعالى في هذا الموضوع وما قبله بالأدلة النقلية على علو الله وفوقيته، ثم بعد أن ينتهي منها سيشرع في ذكر الأدلة العقلية، ثم يجمل وجوه الاستدلال التي دلت عليها النصوص والفطر والعقول السليمة فيما يقارب عشرين وجهاً.
وهذه الأدلة النقلية منها ما هو معلوم مشهور، ومنها ما سبق الكلام عنه، ومنها ما هو ضعيف قد سبقت الإشارة إليه في درس سابق.
والمراد هنا: استكمال ذكر الأدلة الشرعية النقلية الدالة على علو الله والمصرحة بذلك بما لا يدع مجالاً للتأويل؛ لأن هذه النصوص من الصراحة والوضوح بحيث لا تقبل أي تأويل ولا جدال، وإنما يجب أن تقابل بالإذعان والتسليم بما فيها من حق.
ففي حديث: {أنت الأول...} تفسير لمعاني أسماء حسنى وردت في آية من كتاب الله في سورة الحديد، وهي قوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ))[الحديد:3]، وكثيراً ما اضطربت الأفهام في فهم هذه الأسماء وفي معانيها، ولا شك أن أولى الناس بالجهل والاضطراب والاختلاف في حقيقة هذه الأسماء هم أهل الكلام الذين يأخذون صفات الله تعالى ومعانيها عن آرائهم الضالة، ويأخذون دينهم واعتقادهم عن أهوائهم المتشعبة المشفوفة بما قاله أهل الجدل وأهل التفلسف.
أما الذين يأخذون دينهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهم أهل الفهم الصحيح والمنهج السوي؛ فإنه صلى الله عليه وسلم كما أخبر عن نفسه في الحديث الصحيح بقوله: {إني لأعلمكم بالله وأتقاكم له} فقد جمع بين الحالين:
الأولى: حال المعرفة، فهو أعرف الناس وأعلمهم بالله تعالى.
والأخرى: حال التقوى وهو ما تقتضيه معرفة الله تعالى من امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وخشيته سبحانه وتعالى.
فبلغ صلى الله عليه وسلم الكمال في معرفته، وفيما تقتضيه معرفته من خشيته وتقواه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى؛ قال تعالى: ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى))[النجم:1-4]إن هو إلا وحي يوحى، فإذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم معنى اسم من أسماء الله تعالى، فلا اعتراض ولا جدال، ولا مجال لأن يتكلم أحد أو يفسر أو يناقش.
  1. الثناء على الله من أعظم الوسائل لإجابة الدعاء

    إن هذه الأسماء -التي اضطرب الناس في فهمها وفي تفسيرها- قد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جليل، وهو من أفضل الأدعية والأذكار التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يرددها ويدعو بها.
    ففي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأمرنا إذا أخذ أحدنا مضجعه أن يقول: {اللهم رب السماوات والأرض، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء، فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والفرقان، أعوذ بك من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته، اللهم أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عنا الدين، وأغننا من الفقر}.
    في هذا الحديث نجد أنه صلى الله عليه وسلم قد توسل إلى الله تعالى بأسمائه الحسنى، وبالثناء عليه، والثناء على الله من أعظم الوسائل في التوسل إليه ودعائه؛ يشهد على ذلك أحاديث كثيرة جداً؛ ومنها دعاء الكرب؛ فالإنسان إذا أثنى على الله تعالى كان ذلك أرجى لقبول دعائه؛ فهو صلى الله عليه وسلم يثني على الله بهذا الثناء العظيم الجليل من إثبات ربوبية الله المطلقة؛ فهو رب السماوات ورب الأرض ورب كل شيء، ورب كل دابة هو آخذ بناصيتها سبحانه وتعالى؛ فالاستعاذة به هي استعاذة بمن يملك الأمر كله، وإليه يرجع الأمر كله، وهو ملك كل شيء، ومالك كل شيء.
    فمن استعان أو استغاث غير الله في دفع ما يصيبه، فقد التجأ إلى ضعيف فقير مخلوق محتاج مثله، وترك الغني العظيم سبحانه وتعالى الذي بيده نواصي كل هذه المخلوقات، وهو ربها جميعاً.
    ثم أثنى عليه الصلاة والسلام على الله بأنه هو الذي مَنَّ على الناس بهاتين الحياتين:
    الحياة الطبيعية: وهي التي يحياها الناس والأشجار والمخلوقات التي خلقها الله تعالى وبثها في هذا الكون، والتي يبعثها الله بإنزال المطر؛ فهو فالق الحب والنوى ومنزل الغيث؛ فبعد أن كانت الأرض خاشعة جامدة نجدها قد اهتزت ونمت وأنبتت حدائق ذات بهجة... وكل أنواع هذه الحياة: مصدرها تنزيل الله لهذا الغيث وإنعامه على هذه المخلوقات به.
    الحياة القلبية: وهي الحياة الإيمانية التي إذا فقدها صاحبها كان كالحيوانات التي لا تعقل ولا تعي ولا تتحلى بمكارم الأخلاق ولا بالقيم والمبادئ، وهذه الحياة هي التي منّ الله بها على العباد بإنزال الكتب السماوية: التوراة، والإنجيل، والقرآن.. فالله أنزل هذه الكتب لتحيا بها القلوب، كما أنه أنزل الغيث لتحيا به الأرض والأنعام والنباتات.
  2. أزلية الابتداء وأبدية الانتهاء

    ثم يثني النبي صلى الله عليه وسلم على الله تعالى بهذه المحامد وبهذا الوصف العظيم، فيقول: {أنت الأول فليس قبلك شيء} وفيه أن (الأول) هو: الذي ليس قبله شيء، وهذا باتفاق المسلمين والمؤمنين بالله تعالى، فقد أجمع كل من يؤمن بالله حق الإيمان أنه تعالى ليس قبله شيء.
    والمتكلمون يطلقون على الله تعالى موافقة لهذا الاسم: (القديم).
    ويقولون: القدم من أخص صفاته، ثم يختلفون هل (القدم) صفة ثبوتية أو صفة سلبية.
    وهو جدل لا قيمة له في الحقيقة، ولكن الأفضل هو إطلاق اسم الأول؛ لأنه الذي جاء به النص في الآية والحديث؛ ولأن القديم لا يدل على الأزلية -أي: لا يدل على أنه ليس قبله شيء- بل إن القدم أمر نسبي، وقد جاء القديم في القرآن في وصف بعض المخلوقات، قال تعالى: ((وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ))[يس:39] وكل شيء يمكن أن تطلق عليه أنه قديم بالنسبة إلى غيره إذا استحق ذلك الاسم، فمن بنى بيتاً قبل عشرين سنة ثم بنى آخر بعده بعشر سنوات يصح له أن يسمي الأول بالبيت القديم؛ فالقدم صفة نسبية.
    والخلاصة أن القديم ليس اسماً لله تعالى، وأنه لا ينبغي إطلاقه على الله عز وجل بزعم أنه من أسمائه.
    فقوله تعالى: ((هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ))[الحديد:3] وقوله صلى الله عليه وسلم: {أنت الأول فليس قبلك شيء} صريح وقطعي في أنه ليس قبله تعالى شيء، وأنه لا أول لوجوده، ولا موجود قبله تعالى.
    قوله صلى الله عليه وسلم: {وأنت الآخر فليس بعدك شيء} كما قال المصنف رحمه الله: [قوله صلى الله عليه وسلم: {أنت الأول فليس قبلك شيء} أزلية في الابتداء، وقوله: {وأنت الآخر فليس بعدك شيء} أبدية في الانتهاء]، وهذه العبارة منقولة عن ابن القيم من الصواعق .
    ما الفرق بين الآخِر بكسر الخاء المعجمة والآخَر بفتحها؟
    الآخَر بفتحها بمعنى: الثاني؛ يقول اللُُّغويون: لا يقال: (الثاني) إلا إذا كان هناك ثالث، أما إن كانوا اثنين فقل الأول ثم الآخَر.
    أما الآخِر بكسر الخاء المعجمة فمعناها: المتأخر، فتقول: من أسماء الله تعالى الآخِر؛ فكما أنه الأول في جهة الأزلية، فهو كذلك المحيط من جهة النهاية، فهو المحيط أزلاً وأبداً.
    نلاحظ أن الأسماء الأربعة التي جاءت في الحديث تدل على الإحاطة الزمنية والمكانية؛ فاسم الأول واسم الآخر يدلان على الإحاطة الزمنية، وأما الإحاطة المكانية فيدل عليها قوله صلى الله عليه وسلم: {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء} .
    يقول: فهذه الأسماء الأربعة متقابلة؛ فاسمان منها لأزلية الرب سبحانه وتعالى وأبديته، واسمان لعلوه وقربه.
  3. الفرق بين الإخبار عن الله وتسميته

    تقدم قول الإمام الطحاوي رحمه الله: [قديم بلا ابتداء] وهنالك قلنا: إن القديم ليس من أسماء الله.
    ومعلوم أن هناك فرقاً بين باب الأسماء والصفات وبين باب الإخبار، فلا نسمي الله إلا بما سمى به نفسه أو سماه به رسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن أسماء الله توقيفية، لكن الإخبار بابه واسع، فـالمتكلمون الذين نصوا على أن القديم من أسمائه مخطئون، والإمام الطحاوي إنما أطلق ذلك من باب الإخبار.
    ويظهر ذلك بإضافة العبودية إليه فنقول: عبد الله، وعبد الرحمن، وعبد الحكيم، فلا تضاف العبودية إلا إلى ما ثبت في الكتاب أو السنة، أما المتكلمون في كتب الكلام، فإنهم يطلقون ذلك ويجعلونه من أسماء الله، ويجعلون من أسمائه تعالى: الصانع، والمريد وهذه ليست من أسماء الله وإنما هي من باب الإخبار، كأن نقول: الله تعالى هو الصانع أو المريد؛ فيجوز ذلك إطلاقها من باب الإخبار؛ كما في الحديث: {الله صانع كل صانع وصنعته} وفي الآية: ((صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ))[النمل:88] فورد في حق الله أنه صانع لكنه إخبار، وكذلك: ((فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ))[البروج:16].
    فنخبر عنه بأنه مريد، صانع؛ لكن لا نسميه به؛ فلا نقول: عبد الصانع ولا عبد المريد، وهكذا قوله تعالى: (( وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ ))[الأنفال:30] لا يجوز أن نسميه الماكر، فلا نقول: عبد الماكر، وهنا نلاحظ الفوارق؛ فمن حيث الإخبار الباب واسع؛ أما من جهة العَلَمية فاطلاق الاسم توقيفي، لا يثبت إلا بنص من الوحي.
  4. معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (أنت الظاهر...)

    قوله صلى الله عليه وسلم: {وأنت الظاهر فليس فوقك شيء} أي: أن الله فوق جميع المخلوقات، وهذا هو المراد من ذكر هذا الحديث؛ إثبات الفوقية وأنه فوق جميع المخلوقات؛ فليس فوقه عز وجل شيء من مخلوقاته.
    وقوله: {وأنت الباطن فليس دونك شيء} أي: فكل المخلوقات في قبضته سبحانه وتعالى؛ فلا شيء منها فوقه ولا شيء منها دونه، بل هي جميعاً في قبضته؛ كما جاء في أثر ابن عباس : [[كالخردلة في يد أحدكم]].
    فعرش الرحمن أكبر من الكرسي، والكرسي من السماوات والأرض، والله فوق العرش، وهو أعظم منه وأعظم من المخلوقات جميعاً.
    فالأسماء الأربعة التي وردت في الحديث -وهي من أسماء الله عز وجل- نفسرها كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم، وهي في مجموعها تدل على الإحاطة، فالله محيط بخلقه مكاناً وزماناً وعلواً وغلبة وقهراً: ((قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا))[الطلاق:12]، وهو محيط أيضاً إحاطة علو وإحاطة زمان بالأزلية والأبدية.
    يقول المصنف: [والمراد بالظهور هنا: العلو، ومنه قوله تعالى: ((فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ))[الكهف:97] أي: يعلوه] الواو ضمير يعود إلى يأجوج ومأجوج، والهاء تعود إلى السد أو الردم الذي بناه ذو القرنين، أي: لم يستطيعوا أن ينقبوه، أو يظهروا عليه أي: يعلوه ويظهروا من فوقه، فهو فوقهم.
    والشارح يريد بذلك الرد على من قال من العلماء أن المقصود بالظاهر هو: الواضح الذي لا يحتاج إلى أن يستدل عليه، والباطن: الخفي الذي لا يراه أحد ولا يعلم صفته أحد، والمعنى حق في ذاته ولا شك في ذلك، لكن ليس هو المعنى الراجح والمناسب لما ورد في هذا الحديث، فالمعنى المختار هو ما ذكره المصنف هنا تبعاً لما ذكره ابن القيم رحمه الله، وذكره شيخ الإسلام ابن تيمية في الرسالة العرشية وفي غيرها، وإن كان هذا المعنى أيضاً حقا،ً وهو كونه سبحانه وتعالى ظاهراً، بمعنى: أنه لا يحتاج إلى أن يستدل على وجوده، ولا شك أن الأدلة واردة، لكن لا ترد الأدلة لإثبات أمر غائب، بل لتأكيد أمر مقرر، كما سبق أن أوضحنا الأدلة على وجود الله وصفاته وكماله، وأنها من باب تقرير شيء موجود مقرر في الفطر، ولذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: "((أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ))[فصلت:53]: إن العلماء بالله والعارفين به يستشهدون بالله على خلقه" أي: إذا شك أحد في عدم وجود السماء كما تزعم الآن النظرية التي تقول: السماء إنما هي فراغ فقط وليس فيها شيء -فنحن نستشهد بالله على خلقه؛ فبما أن الله ذكر السماء في القرآن- فالسماء موجودة ولها حقيقة.
    وإذا ذكر الله الجبال، فالجبال حقيقة وهذا كلام أهل اليقين والمعرفة، يقولون: إننا آمنا بالله وهو لا يقبل الشك، فلما أخبرنا عن أشياء علمنا أن هذه الأشياء لا تقبل الشك أبداً فأثبتناها.
    فهذا استدلال هؤلاء الذين علت درجتهم في اليقين والإيمان، ولا يمنع ذلك من الاستدلال على الله بما بث في الأنفس والآفاق من مخلوقات؛ لكن يستدل به سبحانه وتعالى على سائر خلقه؛ فمن هذا الباب يكون ظهوره سبحانه وتعالى، فهو أجلى وأظهر ما يؤمن به العقل، ويستيقن به القلب من الموجودات؛ فكل شيء قد يُجَادَل فيه وقد يقبل الشك إلا وجوده سبحانه وتعالى، فلا يجادل فيه ولا يقبل الشك بأي حال من الأحوال.
    ولو أنكر الإنسان وجود الجبال أو الأرض أو الشمس أو الماء، لكان ذلك أقرب للإمكان من أن يقول: إن الله غير موجود -تعالى الله عما يقول الظالمون علواً كبيراً- فالشاهد من هذا هو بيان مقصود بعض العلماء بقولهم: (الظاهر) هو الواضح الذي لا يحتاج إلى أن يستدل عليه، ومع كمال ظهوره سبحانه وتعالى فهو أيضاً (الباطن) الذي لا تعلم صفاته ولا يدرك أحد ذاته، فقالوا: هذا هو معنى الظاهر والباطن، وهذا المعنى حق، وإن كان الأرجح هو المعنى الأول.